المؤامرة!
كتب - رئيس التحرير:
من المبكر جداً أن نحدد من هو يهوذا الاسخريوطي الذي خان فاروق حسني؟ من هما الدولتان اللتان انسحبتا من تكتل أصواته ال 29 وانضمتا إلي البلغارية بوكوفا ليرتفع رصيدها إلي 31 صوتاً ويتقهقر حسني إلي 27 صوتاً فقط؟.. هل كان في معسكر الأصوات المصري "حصان طروادة" زرعه المندوب الأمريكي لدي اليونسكو "دي كيليون" لينسحب في توقيت حرج ويعطي الصوتين للمرشحة البلغارية ايرينا بوكوفا.. أم أن دولتين من المؤيدين لحسني امتنعتا عن التصويت في الجولة الخامسة وهو ما يرجحه كثيرون؟!
ولا أحد يعلم أيضاً الجائزة التي حصل عليها "الخونة" من قوي الشر؟ هل وعدوهما بمنصب كبير في المنظمة الدولية بعد خسارة حسني! أم أن الوعد انحسر في حساب سري بأحد بنوك سويسرا أو منزل صيفي في دولة غربية أو شرقية؟!
وبعيداً عما جري وقبل أن أعود لتكتيك المنافسة الذي يطلقون عليه في السياسة الدولية "خيول الإنهاك" يهمني القول إن أهم ميزة في خسارة فاروق حسني لانتخابات اليونسكو أن الفريق المصري المكون من وزارات الخارجية والتعليم العالي والثقافة خاض المعركة بحرفية شديدة وتخطيط جيد منذ البداية.. كانت هناك حملة ضد فاروق حسني شخصياً وأطلق السفير الأمريكي في اليونسكو "كيليون" بعد الجولة الأولي وصفاً مستفزاً علي المرشح المصري عندما أكد أنه ليس "رجل المرحلة". لكن الفريق المصري صمد وقاتل.
كان تكتيك واشنطن وأوروبا هو الإحاطة بفاروق بمرشحين ينطلقون ثم يتخلفون ويدفعون غيرهم للحاق به بعد أن يمنحوهم أصواتهم.. يطلقون علي هذا الأسلوب "خيول الإنهاك" وهو مقتبس من سباقات الخيل في بريطانيا التي تشهد "مقامرات" ورهانات كثيرة ويتم فيها التربيط مع "الجوكيه" لإنهاك الفرس الأساسي وذلك حتي يتقدم واحد من الخلف ويكون له قصب السباق ويطلقون عليه "الحصان الأسود" لأنه حقق مفاجأة.. بينما الحقيقة أن المفاجأة تكون معروفة بين أوساط "الجوكيه" وموظفي مكاتب المراهنات الذين يلاحظون ارتفاع الرهان علي خيول مجهولة وانخفاضها عن المرشحين.
وهذا هو تقريبا ما حدث.. كان هدف مصر معرفة من الذي التزم بكلامه أو تعهده معنا.. والحقيقة أن الالتزام لم يكن 100%.. كان معنا التزامات كتابية وشفهية قبل بدء الاقتراع 31 صوتاً. لكن النتيجة في الجولة الأولي كانت 22 صوتاً فقط.. ثم ظلت تزيد في الجولات التالية ل 23 صوتاً ثم 25 ثم 29 وهذا يعني أننا اما استعدنا أصوات من وعدونا أو حققنا اختراقاً في تكتلات لم تكن معنا منذ البداية.. وفي الحالين حقق المصريون الفوز حتي الجولة الرابعة.. وأهم ما في هذا الفوز أننا لم نخسر أصواتاً من "معسكرنا" إلا الصوتين في الجولة الخامسة!.. والمعني أن أصدقاءنا ظلوا بجوارنا حتي الموقعة الفاصلة وهذا مكسب. لكنه ليس كل شيء.
الأصدقاء والخصوم
تعالوا نعدد مكاسب مصر من هذا التنافس القوي فنقول إنه أكد أن القاهرة كدولة كبري وعاصمة ثقافية من أهم العواصم العالمية لها أصدقاء وضدها خصوم.. الأصدقاء الذين يؤيدون مصر بخلاف الدول السبع العربية الأعضاء في المجلس التنفيذي لليونسكو كانوا - باجتهاد شخصي - الصين والهند وباكستان وفرنسا وايطاليا واسبانيا واليونان والبرازيل وكوبا وفنزويلا.. إذن الاصوات المضمونة كانت 17 صوتاً فقط.. وهذا يعطي دلالة واضحة ومؤشراً صريحاً علي أن الاتحاد الإفريقي وعد ولم يف بوعده.. ربما نكون حصلنا علي أربعة أصوات أو أقل. لكننا بصراحة فقدنا الترجيح الإفريقي الذي كان كفيلاً بحسم الأمور.. كان لإفريقيا أصوات من بنين وساحل العاج والكونغو وأثيوبيا ومدغشقر والنيجر ونيجيريا والسنغال وجنوب إفريقيا وتوجو وأوغندا وتنزانيا وزامبيا.. أي 13 صوتاً داخل المجلس التنفيذي لليونسكو كان يمكن لو حصل عليها فاروق أو علي سبعة منها علي أقل تقدير أن يفوز مرتاحاً.. لكن العرف السائد أن الأفارقة كثيراً ما يعدون ولا ينفذون ما وعدوا به.. أو يربطون موافقتهم بأشياء أخري.
المؤامرة الحقيقية كانت من أوروبا.. ولعبتها بعنصرية شديدة.. قالوا إنهم أصحاب فكرة إنشاء المنظمة ولم يحصلوا علي رئاستها إلا 3 مرات فقط من تسعة رؤساء والمرة الرابعة للبريطاني هكسلي لا تحتسب لأنها استمرت عاماً واحداً.. لذلك فإنها من حقهم بعد الأمريكان والمكسيك واليابانيين والأفارقة.
يقول مقربون من عملية التصويت إن ألمانيا خاضت ومعها النرويج وصربيا وألبانيا وبلغاريا وليتوانيا حرباً ضد المرشح المصري.. ويبدو أن هذه المجموعة من الدول ترتبط مع ألمانيا بعلاقة خاصة فهي أيضا التي تحفظت علي مشروع الاتحاد من أجل المتوسط وكانت ألمانيا تقود جبهة الرفض له.. والمعروف أن الاتحاد من أجل المتوسط الذي ترأسه مصر وفرنسا لاقي معارضة شديدة من ألمانيا. وسادت فترة من برود العلاقات بين مصر وألمانيا بعدها خصوصاً بعد التصريحات التي صدرت من المستشارة الألمانية حول عملية السلام وغيرها.
الكتل التصويتية في المجلس التنفيذي لليونسكو للقارات الخمس كانت 10 أصوات لأمريكا اللاتينية و7 أصوات للمجموعة العربية و13 صوتاً لإفريقيا و14 صوتاً لأوروبا و10 أصوات لآسيا وأربعة أصوات لاستراليا والأوقيانوس و10 أصوات لأمريكا اللاتينية. وقد حصل حسني علي المجموعة العربية كلها وعدد من أصوات كل قارة داخل المجلس التنفيذي لليونسكو.
كانت الخطة العربية لترويج وزير الثقافة تعتمد علي شيء أساسي وهو أنه خير ممثل للجنوب.. وأنه قد حان الوقت أن يكون علي رأس المنظمة في هذا التوقيت الزمني شخص يمثل العالم الثالث ويعبر عن التسامح والتواصل مع الحضارات الأخري ويسير باليونسكو إلي أهم مراحلها وهي مرحلة التقريب بين الحضارات وإزالة عوامل العنصرية والتعصب وإلغاء أفكار العنف والتصادم والتطرف.
القدس
تسألني عن التأثير اليهودي السلبي ضد حسني فأقول لك إنه كان في ظاهره ضد "شخصه" ولكن في باطنه وعمقه كان ضد العرب!! الهجوم علي حسني لم يكن فقط لمحاولة دمغه بأنه معاد للسامية. ولكن حتي لا يتولي عربي رئاسة اليونسكو ويعمل علي تنفيذ القرارات السابقة الخاصة بالقدس والحفاظ علي هويتها العربية والثقافية وحماية آثارها من الاعتداء اليهودي السافر عليها وهذه نقطة جوهرية.. إسرائيل لا تريد لمدير اليونسكو القادم أن يضع أمامها شروطاً قاسية للانضمام إلي عضوية المجلس التنفيذي لليونسكو ذات ال 58 عضواً.. إنه الخوف والهلع الإسرائيلي ليس من معاداة السامية ولكن من أن تحدث الثقافة العربية أثرا في العالم. وهو الأثر الذي ربما يساهم في تغيير الرأي العام العالمي الذي اقتنع لفترة طويلة بأفكار خاطئة عن الصراع العربي الإسرائيلي. وخشية أن يقنع حسني العالم بأن فلسطين عربية ولم تكن يوماً يهودية كما تشيع إسرائيل! هذا هو ما تخشاه تل أبيب فعلاً وليس مجرد اتهام بحرق الكتب أو غير ذلك من صرخات المتطرفين اليهود التي اندلعت في العالم كله تطالب برأس حسني.. هذا هو السبب الحقيقي وهو ألا يكون للقدس موقع في ثقافة العالم باعتبارها مدينة "عربية" وهو السبب الرئيسي والمباشر للسقوط المشرف لحسني في انتخابات اليونسكو مع احترامي لكل من اجتهد وحاول في تحليل أسباب الإخفاق.
وبقدر ما أنا حزين علي فقدان الوزير حسني لهذا المنصب الرفيع إلا أنني سعيد لأن العرب استطاعوا العمل كمجموعة واحدة ونجحوا حتي الجولة الرابعة في تأمين الأصوات وكلفوا السعودية بالاتصال ب 3 دول بآسيا وأربع في أمريكا اللاتينية واثنتين في أوروبا للتحرك من أجل منع فقد الأصوات في الجولة الحاسمة.. لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
سيدة المرحلة
وأعود للمعركة فأقول إن الأمريكيين والأوروبيين قدموا وجوهاً كثيرة لشغل الرأي العام العالمي بهم مثل فالدنر النمساوية وإيفون عبدالباقي الإكوادورية. بينما كان الرهان الأساسي علي بوكوفا البلغارية.. ولذلك أسباب فهي أصغر المرشحات سناً "57 عاماً" وعليها اجماع افريقي من الدول الافريقية التي تتحدث الفرنسية وتتحدث بلغة فرنسية رفيعة وتجيد الانجليزية باللكنة الأمريكية وقد درست في جامعة مريلاند الأمريكية لمدة عامين وهي الوحيدة في المرشحين التي حصلت علي شهادتها الدراسية من أمريكا.. والوحيدة التي كان لها نشاط سياسي مناهض للشيوعية قبل سقوط الاتحاد السوفيتي عام ..1992 وقد ظلت بوكوفا ناشطة سياسية من سن الثانية والثلاثين ضد الحكم الشيوعي لأوروبا الشرقية. كما أن جزءاً من رسالتها التي حصلت بها علي درجتها العلمية من جامعة مريلاند كان عن عيوب النظم الشمولية وكيف تحمل بذور سقوطها.. وكانت أمريكا وأوروبا تردان علي الدعوة بأن يكون حسني أول عربي للمنظمة بالقول إن بوكوفا تستحق أن تكون أول امرأة ترأس المنظمة.
إذن أمريكا "سيست" معركة اليونسكو.. والمنصب لا يمكن أن يكون سياسياً لأنه في الأصل ثقافي.
هل مارست واشنطن الابتزاز وهددت بأن تمنع تمويل المنظمة "أمريكا تقدم 50% من اعتمادات المنظمة" مثلما فعلت أثناء رئاسة مختار أمبو الافريقي الصومالي لمدة 19 عاماً؟.. كان خطأ أمبو انه هاجم إسرائيل فأدخلت واشنطن المنظمة النفق المظلم. ومع ذلك فإن هذا الرجل العظيم استطاع تقديم أروع مشروع للمنظمة في عمرها البالغ 63 عاماً وهو إنقاذ آثار النوبة.. لم تستسلم المنظمة للمقاطعة الأمريكية وخشيت واشنطن أن يتكرر ذلك فتضيع هيبتها مرة أخري في وقت هي أحوج ما تكون إليه.
علي أية حال الدور السعودي في تأييد فاروق حسني كان لافتا للأنظار. فقد كان هناك تعهد بتمويل المنظمة إذا ما انسحبت أمريكا بشرط أن تكون محايدة. وأعتقد أن هذا ما لا ترضاه واشنطن.. ولا تقبل أن تبقي علي الحياد.
التدخل الرئاسي المصري كان هاماً كذلك وتم تحويل أصوات دول - خصوصاً في أمريكا اللاتينية وآسيا - لصالح فاروق حسني وذلك في الجولة الرابعة التي اشتد فيها تكسير العظام وخطف الأصوات وإقناع كثيرين بالامتناع عن التصويت إذا كانوا مازالوا مصرين علي المرشح المصري.
ولعبت أمريكا بكارتها الأخير عندما قالت - ومعها ألمانيا - إن مدير اليونسكو يجب أن يعرف الكثير عنها وهو ما يتوفر لبوكوفا وليس لحسني فقد عملت سفيرة لبلغاريا في اليونسكو أعواماً طويلة وخدمت كمفوض فوق العادة بالمجلس التنفيذي للمنظمة "8 سنوات" وممثلة لبلادها لمجموعة الدول الإفريقية والأوروبية الناطقة بالفرنسية.. باختصار فهي تعرف اليونسكو ككف يدها.
.. وبعد.. تسألني عما ينقصنا لنكون عالميين.. وأقول ينقصنا الاستثمار في صناعة الصحافة العالمية.. رجال الأعمال المصريون مطالبون بأن يمتلكوا صحفا في الخارج بدلا من الطائرات والفيلات والقصور.. لقد حان الوقت أن يكون لمصر صحف تشكل الرأي العام في الغرب ومحطات تليفزيون ولوبي سياسي يحترمه الناخب الأوروبي والأمريكي.
إن جزءا كبيرا من ثقل إسرائيل يكمن في أنها تستطيع التأثير في نتائج انتخابات الحكومات في أوروبا. كما أن لها صحفاً تتحدث باسمها ومواقع إلكترونية كثيرة. وأعتقد أن مصر تستحق أن يدافع عنها في الخارج من يأكل "بغاشتها" علي أرضها.. وبدلا من الصحافة الخاصة التي ننفق عليها لتشوه مصر ما المانع أن يكون لدينا صحف عالمية لا تطبل لنا ولكن تقول الحقيقة وتكشف المؤامرات وهو ما نحتاجه بشدة؟.